بعض الحكايات لا تنتهي


1

ليس من السهل سرد تفاصيل حكاية ، بشكل كتابي ، إذ أنك أحيانا تواجه صعوبة في تسطيرها بشكل مناسب للقارئ ، لتوصيل الفكرة أو المعني الصحيح للحدث ، بخلاف أن تسردها في جلسة على ضوء القمر للمجموعة من الأصدقاء لن يعاتبوك على اللغة التي تخاطبهم بها والطريقة التي تتحدث بها ، فكل ما يهم في ذلك الوقت هو الحصول على الأحداث بطريقة سهلة وبسيطة بدون التعمق في الحديث والأحداث إذ أن الكلام ، وطريقة تعبير وجهك تختصر الكثير من الصفحات والكثير من الدقائق ، فمشاهدة فلم قد يستغرق ساعتين بينما لو أنك تقرأ ذلك في رواية ربما أخذ منك ساعات طويلة ، لو أنك حاولت أن تنتهي منه في نفس اليوم ، بخلاف أن تقرأها على أجزاء وفي أيام متفرقة ، ربما البعض يعشق أن يعيش داخل رواية ويقرأ تفاصيلها بدقّة ، ولكنّا نجد في الضفة الأخرى ، من يريد اختصار الأحداث ، وليس لدية الوقت الكافي لمتابعتها من خلال حروف مكتوبة .


2
اقتات الحيرة في هذه اللحظة وأنا أحاول أن أبد معك الحكاية من أولها فتراودني فكرة أن أطلب منك أن تعود إلي آخر صفحة لتعرف النهاية ثم تبدأ من هنا ، كرة أخرى ، غير أني أعلم أن آخر صفحة بيضاء ولا تحمل غير كلمة " النهاية " ، فلن تستفيد منها لذلك هل أبدا معك بـ كان يا ما كان كما هو في رواية " إحدى عشر دقيقة " أو أقول كنت أقف على مدخل العمارة التي أسكن أنتظر حدث في حياتي لا أعلم ما يكون غير أني أعرف أن هناك لحظة للوضوح سوف تأتيني في اليوم الثالث عشر من الشهر ، برغم أن هذا الرقم الكثير يتشاءم منه إلا أني اعتبره رقم حظي فكل ما يعود بي الزمن له من كل شهر أقف على مدخل العمارة التي أسكنها ، أترقب الحدث ، تمنيت وقتها أن يكون عدد شهور السنة ثلاثة عشر بدل الـ أثنى عشر ، فتتاح لي فرصة ترقب لحظة الوضوح على مدار ثلاثين يوماً ، فتكون فرصة الحصول عليها أكبر من يوم واحد في الشهر بمعدل أثني عشر يوماً في السنة .


انتصف النهار وأنا قابع أمام بوابة العمارة ولم يحدث أي شيء ، وعندما هممت بالعودة لشقتي في الطابق السابع تقدم نحوي رجل مسن ملامحه أوروبية يقتاد فتاة في بدايات العشرين من عمرها ، سألني عن وجود شقة خالية في نفس العمارة التي أقطنها ، والتي تعتبر أحدث عمارة في ضواحي العاصمة جيبوتي ، تتكون من عشر طوابق أغلب سكانها من غير أهل البلد ، لا أعرف الكثير منهم إلا جاري الفرنسي وزوجته الأربعينية ، أخبرته عن وجود شقة خالية في الدور الثامن تركها تاجر هندي منذ بضعة أيام ، تركها خالية من كل شيء ، حتى لوحات مفاتيح الإضاءة جردها منها في ليلة ليست قمرية .


3
حينما عرفنّي بنفسه باسم بيدرو من ايطاليا وزوجته الشابة " جمايكا " غير أنها لم تكن جاميكية ، بل كانت من الريف الايطالي ، عرفني بها وكأنه ينتقص من قدرها أو أن في حديثه نوع من المنة عليها إذ يشعر انه أنقذها من جحيم تلك المنطقة التي كانت الأنثى تشقى فيها أكثر من الرجل وأنها في نظر الرجل هناك لا تتجاوز غرض يتم استخدامه للعمل والمتعة .


كانت تبتسم وهي لا تعرف عن ماذا كان يحدثني لأنها لا تجيد اللغة العربية ، غير أني شعرت أن المرارة في تلك الابتسامة موجود ، وبين طياتها تحاول أن تخبرني أن هذا وغد اتخذ منها مطية يعاشرها ثم يبصق عليها بعد أن ينتهي منها ، وكأنه ثور اسباني خارت قواها من اثر طعنات السيوف .


أرشدته نحو مكتب وكيل العمارة ، وبقيت مع نفسي التي سرحت تفكر في لحظة الوضوح من جديد وأحاول أن استخرج من ذلك الحدث ما يشير لها إلا أني فشلت في الربط بينهما ، لا شيء يوحي باكتمالها في تلك اللحظة أو حصولي عليها ، لا توجد تفسيرات واضحة لوجود تلك الايطالية في حياتي ، لم أتلفت لها كثيرا ربما أن الحزن عليها وهي مع ذلك العلج ، هو أكثر ما كان يدور في ذهني ، كنت استفسر كيف تسلم فتاة نفسها لرجل مثل ذلك وأي متعة تجدها بين أحضانه ، تخيلت أنفاسه الكريه وهو يمارس معها الحب ، وجسده المجعد في كل المناطق ، كيف يستطيع أن يمنحها وتمنحه ، الحياة مليئة بالكثير من المفاجآت ، مرارة الجوع ربما تكون اشد من مرارة أن يلعق رجل جسدها ويبقي عليه الكثير من لعابه الذي يحمل رائحة الموت .


ماذا اعرف عن الموت ؟


لا اعرف شيء عن رائحته فكيف لي أن اعرف عنها ، لن أخوض في اختيارات الآخرين ، لأني في غير وضعهم ولا اعلم عن البيئات المختلفة عن البيئة التي تربيت فيها ، فكل حياة مختلفة عن الأخرى غير أنها تجتمع في نهاية واحدة وهي الموت ، الذي يطويها جميعا ، ثم يعيدها من جديد بشكل آخر مغاير عما كانت عليها وفي مكان أيضا آخر ، ربما من سوء حضها أنها تعيش مرارة الحياة مرتين والبعض يعيش تلك المرارة مرات عديدة في حيواة مختلفة وفي بيئات أيضا مختلفة .
4
ما اشد قسوة الليالي في تلك الضاحية البعيدة عن مركز المدينة ، فيها تشعر وكأن كآبة العالم كلها اجتمعت لديك في داخل شقة صغيرة ، تقضي معك سهرة مملة حتى الفجر ، تشاركك في كل شي حتى حينما تتناول طعامك ، تجدها قد امتزجت في شرابك ، وغلفت جميع اللقم التي تبتلعها .


تنظر من النافذة لترى كل شيء اسود وبعض الأنوار الخافتة تنبعث من المنازل الصغيرة المنتشرة بكثرة على شكل عشش وصنادق صغيرة ، هي إضاءة لا تصدرها الأنوار الكهربائية ، بدون شك هي من مصابيح على الغاز . وحينما تتأمل الشارع العام الذي تقع فيه البناية تشاهد أعمدة الإضاءة أغلبها لا يعمل ، ربما هو من باب التوفير في الطاقة وأن لا حاجة لها في ذلك الوقت المتأخر من الليل .


تتساءل أحيانا هل نحن في هذه البقعة جزء من العالم أم أننا في مكان لا يوجد على خارطة الكون ؟، قطعا هي جزء من الكون وأن هناك أماكن كثيرة تحمل نفس المعالم والسمات وربما هي أشد نكاية من هذا المكان الذي نقطنه والذي تتغير معالمه كل صباح حتى الغروب .


حينما زارني صديقي ترك جملة واحد بعد أن أمضى ليلة بعدها عاد إلي دياره ، أنتم هنا تقتلون المتعة ، حتى الملعقة التي آكل بها طعامي ألبستها " الكوندم " .


5

الصباح هو بداية يوم جديد في حياتك ، من بعد أن فارقت الحياة لساعات لا تعلم ماذا دار فيها ، قد تكون في منامك ممن يواصلون حياتهم هناك ، فتمارس بعض الطقوس التي لا تستطع أن تمارسها في واقعك الحقيقي ، حتى أمنياتك تتحقق هناك ، الجميل انه لن يحاسبك أي أحد على أي عمل تقوم به ، فيه تستطيع أن تحكم العالم ، وفيه تستطيع أن تمارس الحب مع المشاهير من النساء ، التي أكثر ما تستطيع عليه في واقعك ، هو أن تشاهدها في فلم أو على خشبة مسرح ، من خلال شاشات التلفاز .


أخرج من شقتي والتي تقابلها شقة جاري الفرنسي ، الذي يغيب عنها أيام ، بحكم عمله في مناطق بعيده عن العاصمة .الدور السابع لا يحمل غير تلك الشقتين ، وممر ليس بذلك الوسع كفاية ، إلا أن زوجة الفرنسي حولته إلي معرض ، فيه بعض لوحاتها وبعض التماثيل التي تصنعها من الطين ، وبالكاد أمر من خلالها ، حتى أصل إلي مصعد العمارة ، وهي ترمقني بنظرات تحمل الرغبة في انتقام أكثر من ذلك الذي عملته معي ، بعد أن ترددت كثيرا على شقتها ، بحضرة زوجها وفي غيابه ، وقتها أغرتني بصناعة جسداً مشابها لجسدي من الطين ، مقابل فرنكات كنت في حاجة ماسة لها في ذلك الوقت ، فعلت ما تريد ، وتجردت من ملابسي ، حتى تصنعني بطريقة تتناسب مع كل أجزاء جسدي ، وفي النهاية حينما عرضتني وأنا من الطين في الممر ، لم تجعلني مثل بقية الرجال ، إذ سلبتني ذكورتي ، وكأنها تنتقم بذلك العمل ، من كوني لم أتحرش بها ومطارحتها الغرام ، في غيابات زوجها المستمرة ، إلا أني لم افعل .


لا أعلم لماذا ؟


ليست بشعة ولا جميلة ، أربعينية تشعر أن لديها الرغبة ، قد توحي لك بعض افعالها أنها قد تمنحك المتعة ، التي يقول عنها صديقي أنها مقتولة في هذا البلد ، بدون أن تخاف من أي شيء ، ربما يعود سبب عزوفي عنها ، هي تلك الحكاية التي شاهدتها في السوق بين الرجل الجيبوتي المعاق ، والذي يساعده على التحرك كرسي يتنقل به في الأماكن .


كانت تقف بجوار سيدة فرنسية ، تشابه زوجة جاري في السن والجسم ، وحديث يدور بينهم يجعلك ترغب في معرفة ما يكون ، حينما رحلت وتركته ، ذهبت استفسر عن حواره معها ، بطريقة تخفف من حدة عصبيته ، التي ظهرت وهو يتحدث معها ، لم يكن بعيداً عن الجنس ، لقد كان يساومها أن تمارس معه عن طريق فمها ، مقابل المال ، لكنهم لم يتفقوا على السعر ، يبدو أنها طلبت ما لا يستطيع عليه ، فهو بالكاد يجمع ذلك من صدقات المارة ، ليذهب به إما لشرب أو ممارسة الجنس .


من ذلك الحدث تقززت كثيراً من الفرنسيات ، ولم تعد لي رغبة في مجالسة جارتي ، دائما أتخيل أنها ممكن أن تقوم بأي شيء مقابل المال ، ولديها استعداد أن تدفعه مقابل ما تريد ، هكذا هي نظرتهم للحياة والمال ، به تستطيع أن تأخذ ومن أجله لابد أن تقدم ، قانون يفرضه الواقع على الكثير ، ما لم تكن هناك موروثات تتحكم في العلاقة بينك وبين المال ، تحدد الطرق الصحيحة لكسبه ، وأيضا تلك الطرق المشروعة في إنفاقه .


6
ثلاث سنوات من العذاب في هذا البلد ، الذي يشعرك أن حظوظك في الحياة ليست جيدة ، وأنها تتوقف في محيط هذه العاصمة ، تنتابك لحظات ضعف تجتاح سكون الليل ، فتظن أن قبرك سوف يكون في طرف المدينة ، هناك حيث يرقد العبيد في مقبرة ، لا تفرق بين كونك مسلم بالفطرة ، أو لست على تلك الديانة .


وظيفتي تزويد سفن الشركة التي أعمل بها ، والقادمة من شرق آسيا ، والمتوجه إلي أوروبا والعكس ، أحيانا اقضي أيام ثلاثة إلى أربعة في الميناء ، دون العودة إلي منزلي ، اشتاق لهدوء شقتي ، ومنظر الغروب من نافذتي ، إلا أن صخب الحياة في الميناء يزيل عنك وحشة الضواحي ، فيه تقابل أجناس مختلفة من البشر ، منهم تستمد ، أن هناك حياة أخرى في الجانب الآخر من البحر ، ويكون معهم أمل الخلاص من هنا .


كثيرا ما أفكر ، كم شخص في هذا العالم يشعر بمرارة ما أشعر به من غربة ؟ ، وهل الغربة متساوية في العذاب ؟


يزداد حزني حينما نودع السفن التي مكثت في الميناء أكثر من يوم ، بسبب عطل أو تأخير في تفريغ أو تحميل ، وهي تغادر الميناء ، ورفاق يومين أو يزيد ، يلوحون بأيديهم ، وكأن ليس هناك لقاء آخر ، فهم لا يعرفون هل سيعودون مرة أخرى من نفس الطريق أم يتم توجيههم إلي طريق آخر .


نحصل على الكثير من الهدايا أثناء عملنا ، أكثر ما أتذكر من الأشياء التي حصلت عليها هو تمثال بوذا ، مصنوع من الفخّار ، كان من سفينة صينية ، توقفت ثلاثة أيام ، تكونت مع طاقمها علاقات جيدة ، من بينهم رجل أفغاني منحني ذلك التمثال ، وبادلت التمثال برغبة مثل تلك التي كان يرغب بها المعاق على الكرسي المتحرك ، مع فتاة افريقية تعمل في بوفية الميناء .


برغم أن الرغبات مقتولة ، كما قال صديقي إلا أنها تأتيك مرات عديدة وبعنف ، فلا تستطيع مقاومتها ، عليك أن تتحايل عليها بشيء منها ، فتزول وتبقى أنت ، لكنها تتجدد لك مرة أخرى ، فتبحث عن الخلاص منها ، والخوف يحيط بك من كل مكان ، رغبات ووجوه مختلفة تذهب ولا تعود ، لكن رغبتك تباغتك في كل مرة ، وتظل تبحث لها عن وجوه جديدة ، وبطرق أيضا فيها الكثير من الحيلة .





7
في ذلك المساء عدت إلي الضاحية ، وفي الغالب لا أعود لها إذا دخل علينا الظلام فالوضع ليس بالآمن ، قد تجد من ينهب حتى ملابسك ، كل شيء معرض للسرقة في ذلك البلد ، لا شيء يعيق رغبتهم وحاجتهم في نفس الوقت .


هي مغامرة أن أعود في المساء لكني فعلت ، لم أجد ما يقلني مباشرة إلي المنزل ، فاختصرت الطريق ، عن طريق التسلل بين المنازل ، وحتى أكون على مقربة من الأهالي ، كنت أسترق النظر لبعض البيوت ، وأهله يجتمعون على مائدة العشاء ، حتما هي تتكون من صنف واحد ، أكثر ما شدني ، هو منظر تلك الفتاة التي تقضي الليل مع رفيقها أو زوجها ، في الساحة المقابلة لمنزلهم ، على ضوء بسيط ، يتبادلون الحديث ، إلا أن عيونها تتحدث وهي تستمع لحديثه ، كان فارسها وحلمها الذي تنشده منذ صباها ، حياتها القادمة تتكون في صورة ذلك الشاب ، أرهقني تعلق تلك الفتاة بذلك الرجل ، وكأن الدنيا بين قبضتها ، علامات الرضا والقناعة بذلك البيت من الصفيح ظاهرة عليها ، هو قصرها الذي تحلم فيه ، وتلك الساحة هي حديقتها التي تقضي فيها بقية اليوم .


منظرهم جعلني أقتات البؤس في لحظة ضعف تسيطر عليها الوحدة ، كانت كابوس يجتاحني في تلك اللحظات ، شعرت بالفراغ الذي يحيط بي ، فبحثت عن باب الخلاص ، غير أني انتقل من باب الفراغ إلى فراغ آخر ، الأبواب كثيرة والفراغات أيضا كثيرة ، في كل فراغ تجد أنك محاط بفراغ ، سرت في الظلمة ولم أشعر بالأشياء من حولي ، اختصرت حياتي في المسافة التي أقطعها بين منزل ذلك الشاب والبناية التي أسكن بها ، ليت أن المسافة تطول ، حتى أجد الحل للحياة التي أعيشها ، هي لا تحمل أي معنى ، ولا تستقر على قاعدة ، منها أنطلق نحو عالم الشراكة الحقيقية ، يبدو أن خوفي منها جعلني أتخذ من نفسي شريكاً لي ، فوجدتها في أغلب الوقت ، ترحل بي نحو عالمها الذي تعشق وحياتها التي تريد ، لا شيء في الكون أجمل ، من أن تنظر لك فتاة ، وتعتقد أنك الحلم الذي كانت ترجو ، وأنك الأمان الذي ترتمي بداخله من قسوة الحياة وعذاباتها .


فكرت مرارا وأنا بداخل فراغي لماذا أعيش ولمن أعيش ؟


دائما الجواب يكون بقدر قناعاتي بالأشياء ، فهناك من يعيش من أجل امرأة ، وآخر يعيش من أجل المادة ، والبعض يعيش من أجل نفسه ، كثيرة هي خيارات العيش ، الحياة ملل ، بهكذا نتيجة خرجت ، وكأني أهرب من تفاكيري بهذه الخلاصة البائسة ، ليس مهما ما وصلت له . لكني أرغب الآن في الاستماع إلى أغنية ، تنقلني إلي أصوات الصبية في الحارة ، بعيداً عن هذه الضاحية ، فقررت الرحيل مع .. فخذي شراعي يا رياح .. وتوكلنا على الله


8

أزعجتني الحركة والأصوات في البناية ، في العادة تكون في هدوء تام ، فأنا لا أشاهد حركة ساكنيها إلا بالنادر أيام الإجازات ، الكثير منهم يعمل خارج المدينة ، يعودون لها من أجل قضاء مصلحة في العاصمة ، أو كما قلت في السابق إجازة قصيرة ، اليوم الوضع مختلف ، منذ فترة لم يحدث مثل ذلك الضجيج ، حتى مع مغادرة الهندي منها ، قد يرجع تسلله ، أنه كان ناو على سرقة ، ففعل .


كان كل ذلك الضجيج صادر من الإيطالي الذي لم أشاهدة منذ أن التقيت به أول مرة ، واليوم ها هو يعود محملاً بأثاثه الذي لن تسعه الشقة ، حاجياته كثيرة ، تشعر أن الفوضى بداخل ذلك العفش لن تنتهي ، وأنه لا يمكن ترتيبها بشكل أنيق مثل جاري الفرنسي ، همجي بشكل عجيب حتى في تعامله مع العمّال ، اتخذت زوجته مقعداً وظلاً ، وأخذت تراقب الوضع من بعيد وهي صامتة ، لعلها في إحراج شديد من تلك الجلبة التي يحدثها زوجها ، خاصة وأني بدأت أراقبها من نافذتي .


بدا لي كأن الأشياء لا تنتهي من تلك العربات ، ما لفت نظري هو حوض السمك الزجاجي الكبير ، الذي قررت زوجة الايطالي أن يجلبه العامل بجانبها ، خوفا عليه من الكسر ، نزلتُ إلى الأسفل أتسول حديثاً معها ، في انشغال زوجها داخل الشقة بترتيب الأشياء ، سألتها ..


هل تجيدين الانجليزية .


- نعم قليلا ً


- أخبرتها أن حوض السمك ، قد يرغب طفل إفريقي أن يعيش بداخله ، فهو بحاجة لتلك المعيشة أكثر من سمك الزينة .


ابتسمت واعتبرت أن تلك دعابة ، غير أني في الحقيقة كنت أعني ذلك ، الحياة مؤلمة هنا وخاصة للأطفال
تتساءل أحيانا أين ربهم ؟ ، ألا ينظر لهم بعين الرحمة وهو الرحيم .


دائما اسأل نفسي لماذا هم في العذاب أكثر من بقية الشعوب ؟


تلك قسمة الله ، هذه النتيجة التي أخرج بها في كل مرة وهي مرضية بالنسبة لي .




9

لغتنا الركيكة جعلتنا نتفاهم بشكل أفضل ، اقترحت عليها أن آخذها للبحر لاصطياد مجموعة من الأسماك لتضعها في حوضها ، رحبت بالفكرة كثيراً ، لكنّا لا تملك القرار الأخير لهكذا رحلة .


بيده خيوط الدمية التي تتحرك على مسرح الأطفال ، وكثير من الأيام بقيت تلك الدمية ساكنة في مكانها ملتصقة بالخيوط الأربعة الممتدة من الخشبات التي تتكون على شكل صليب .


الأنثى حكاية ليس لها نهاية أو قوانين تحكمها ، ولا تعرف من أين تبدأ معها ، فان وجدت نفسك تصارع البداية قد تجدها بدأت من آخر صفحة في كتاب بيدها ، تبحث عن شيء أنت لا تراه ، فقط هي التي تشاهده ، و ليس كل ما نشاهده نراه ونقف عنده ، الحكاية تبدأ معها من كونها مخلوق لا يختلف عنّا كثيراً سوى في بعض التكوينات الجسدية الداخلية والخارجية ، لكنها دائما هي الحلقة الأضعف في أي علاقة حتى وإن تجبرت إلا أن دخلها يرغب في أن تكون الأضعف مقابل الرجل .


فهل خلقها الله من أجل متعة الرجل ؟


كثيراً ما حيرني هذا السؤال وأيضا فهم وجود الأنثى في حياتنا ، ولكوني أعرف أني لن أصل لنتيجة حقيقية في فهم وجودها اختصرت كل شيء عنها بكونها المكان الذي يحمل طفلي .


يزيد تعجبي حينما أتعمق في كونها الكائن الذي مسموح لنا بضربة ، حتى وإن كان بشكل خفيف إلا أن لفظ الضرب بحد ذاته يجعلها هي الأضعف وأيضا يجعل منها الشخصية المتمردة ، بفهم أن الضرب هو للتربية والتقويم .


لعلها أفكار متضاربة تراودني حول هذه الإيطالية التي أشعر أني المنقذ لها ، من ذلك البغل الثائر في كل شيء ، أو قد تكون الشهوة التي تسيطر علي وأنا أراقب جسمها المجنون في تناسقه ، المرهق للناظر ، المتمرد لكل قطع القماش التي تخفيه ، رغبتهُ في التحرر من كل شيء يلتصق به فكرة أحاول أن أثبتها من أجل متعة أشبع بها نظري ، النفس دائما تجتهد في تبرير تصرفاتها لما يروق لها ، النظر لهذه الإيطالية يمنحك نشوة قرار ، أن الكون جميل بوجود الأنثى وأن الحياة تكتمل لذّتها بوجود المرأة .




10

أجبرني وجود الايطالية في العمارة إلى ترتيب شقتي التي تحمل سمات كثيرة مني ، بها الفوضى ، وأنا فوضى هذا الكون الدقيق في ترتيبه وتوازنه ، لعلي ذلك الخلل الوحيد في جمال الكون ، الأشياء لا تبلغ الكمال مهما اجتهدنا في أن تكون ، أنا تلك البقعة التي تشوه صفاء البياض على ريش حمامة ، تقف على نافذتك في أول الصبح تغنّي لك عن الأمل .


طلبت من حارس البناية أن يحضر أحد الفتيات لتنظيف المكان الذي أنام وآكل فيه ، وبعد أن قامت بذلك ، وجدت أني كنت أعيش على أحد الأرصفة في حي مهجور ، ولكن هل كل إيطالية ممكن أن تغير نظرة شاب للحياة ؟ الحق أني لا أعلم ، وما أنا متأكد منه الآن هو شعور الفرنسية جارتي الذي يخترق عظمي في صعود ونزول ، ترمقني بنظراتها الساخرة الحاقدة ، كل ما حاولت تقديم المساعدة لجارتي الجيدة التي تسكن فوقي ، لذيذة هي الحياة حينما تجد من يجددها لك ، حتى وإن كان شخصاً لن تنال منه أطماعك ، لكنه موجود .


آخر ما قلت لجارتي الفرنسية بعد أن أرهقني وقوفها على باب شقتها في طلوعي ونزولي " لو جربتيني " بعدها لم أشاهدها بكثرة ، لعلها تعيش في الحسرات .


خرجت في الظهيرة مع جمايكا لجلب مكونات البيتزا ، وعدنا زوجها أن يقوم هو بصنعها ، وأنه يجيد ذلك ، أخذ يحدثني عن المطعم الذي عمل فيه أول حياته وكيف أن بيتزاه مميزة وأن سكان البلدة التي يعيش فيها يصنفونه الرجل الأول في عملها ، غير أن داخلي يقول أنه يكذب ، وسوف ينجح في كذبته لأني لا أعرف مذاق البيتزا من مصدرها الأصلي " إيطاليا " لم أكن مهتما لكل ما يقول فقط كنت أحرضه على عملها ، من أجل أن أخرج مع زوجته لجلب محتوياتها ، فهي جديدة على المكان تحتاج إلى مرشد يتجول بها في شوارع وأزقة العاصمة .


ركبت معها خلف التاكسي ، تمنيت أن لو كان حجمه من النوع الصغير إذ أنك تحتاج أن تلتصق بالشخص المجاور لك ، لكن المسافة على المقعد واسعة بيننا ، لم نتحدث كثيرا كانت تشاهد المناظر بتعجب ، تلفت عنقها للأطفال الذين يجرون خلف السيارة كل ما أبطأنا في حركتنا ، بين كل زمن ترمي بسؤال حول اسم المكان الذي نحن فيه ، أو اسم الشارع ، أو تستفسر عن مجسم تاريخي ، قابع في ميادين العاصمة .


وأخيراً سألت عنّي ..


- من أين أنت ؟


- ماذا تعرفين عن البلاد العربية ؟


- أعرف مصر فقط


- أنا أقيم بجوار مصر في الجزيرة العربية يفصل بيننا بحر


ثم انتقلت من جديد للعاصمة وضواحيها ، حتى وصلنا إلى مركز العاصمة حيث يكون هناك السوق الكبير ، خرجنا نتجول في بداية الأمر وأنا أراقب تعجبها لكل شيء تشاهده وتقف عنده ، هكذا الحال لكل غريب ، الفضول يقتله في بداية الأمر ، وحب إشباع النظر بكل ما هو غريب عن البيئة التي كان يسكنها يكون شغله الشاغل في بدايات تواجده حتى يصيبه الملل من كل شيء وتصير الأشياء تصيبه بالإحباط ، حينما يشعره كل شيء حوله أنه يعيش في العالم السابع ، وأن هناك حضارة في مكان آخر منه ، يتزامن تطورها مع سير عقارب الساعة ، ففي كل لحظة يختلف الوضع عن ما هو عليه ، وأنت في مكانك تتأخر مئة سنة مقابل كل دقيقة تمر هناك ، لاشيء سوف ينقذك من هذا المكان غير أن ترحل عنه .


أخذنا ما نحتاج وعدنا إلى التاكسي ، وقبل أن نصعد في وضع متقابل يفصل بيننا التاكسي سألتني ..


- منذ متى وأنت هنا ؟


- ثلاث سنوات


- وما هو عملك ؟


- تموين السفن


- هل أنت سعيد بتواجدك في هذا المكان ؟


- يمكن الآن نعم


قطع حديثنا صوت صاحب التاكسي المتذمر من هذا الوضع ، يعلم أنه لن يغلبني في الأُجرة ، لذلك هو يحاول أن يخلص منّا في أسرع وقت ممكن ليواصل كسب رزقه .




11

كانت لذيذة وشهية ، أقصد بذلك البيتزا طبعاً وليست زوجته ، هي الأفضل مذاقاً منذ عرفت البيتزا المقلّدة ، ولكن كما تقول العرب " أعط الخبز خبازه " وبقية الأمثلة المشابهة التي تفرضها الثقافات المختلفة والتي تشابه هذا المثل .


في كل خلوة أحاول أن افرضها مع زوجته ، وهي تريني الأشياء الخاصة بها ، تحدثني عن ذكرياتها مع قطع الأثاث والتحف ومن أين اشترتها ، أجده يكسر اندماجنا بطلب مساعدة منها ، لا أعلم هل كان يتعمد فعل ذلك أم أنه يريدها أن تكون بجواره وهو يصنع البيتزا كنوع من الاطمئنان .


الكثير يحب أن يستعرض بطولاته أمام أنثاه ، حتى الحيوان والطيور تقوم بذلك ، وغالباً ما يكون ذلك بصراعات تدور بين الذكور ، والأقوى هو من يحصل على الإناث ، لدينا بيئة مشابهة لتلك في أزمان قديمة ، لكن أساساتها قائمة على المادة ، فهي المسيطرة على كل شيء .


تطور العقلية عند الإنسان يجعله يخرج من تلك الدوائر الضيّقة ، نحو أفق ينظر للكائنات من موقع العطف والشفقة والرحمة والمساواة ، إلا أننا نجد العبودية موجودة في حدود ضيّقة وتكاد تكون بشكل سري ، يتلذذ ممارسوها بالقوة التي يمنحها لهم المال ، وأيضا الشعور بالسيطرة داخل ذلك الحيز الذي يخلقونه ، داخل بيئات تحارب ذلك النوع من السيطرة المفرطة نحو الإنسان ، ودائما الأنثى هي الحلقة الأضعف .


لو تطورت العقلية الحيوانية ، وأصبح لها منظور خاص نحو تكوين الأسرة في البيئة الحيوانية ، فهل من الممكن إيجاد مجتمعات منها ، تخضع للقوانين البشرية في تعاملاتها مع بعض أو أنها تؤسس قواعدها الخاصة للتعايش مع بعضها البعض بشكل مخالف لقوانين الغاب ؟.


لعل مفعول النبيذ الإيطالي جعلني أفكر بطريقة مختلفة وبدأت أتوسع في الفكرة ، وهي بسيطة جداً ، رجل يحاول أن يحمي زوجته منّي ، بطريقته الخاصة بدون فرض القوة ، يستطيع أن يطردني من منزله بسهولة ، لكنه يحاول كسبي في صفه ، وربما يعرف أن العرب لا تخون العشرة ، إلا أن جسد زوجته ، يجعلك أن تكون الخائن الأول لبلدك .


كانت تتعمد أن تريق قطرات من النبيذ الأحمر على نحرها حتى يتوارى بين نهديها ، ثم تدخل إصبعها وتبدأ بسحبه نحو الأعلى ، وهو يحمل بقايا من تلك القطرات ، تلعقه بلسانها بنوع من الغنج ، ملعونة هي في فتنتها .




12

ليلة جديدة أقضيها في الضواحي ، ولاشيء جديد ، الأيام متشابهة ، وإن حدث في بعضها مثل ما حصل معي اليوم إلا أن الغالبية تبقى على نفس النمط ، التكرار يقتلني في كثير من الأحيان ، لاشيء مغري في هذا البلد يجعلك تغادر منزلك لتمضية جزء من ليلك فيه ، منذ أن تتلبس الأماكن الظلمة يبدأ الخوف ينتشر في المدينة وضواحيها .


في تلك الليلة زارني صديق يعمل معي في تزويد السفن بالمؤن ، يشتكي من زميلته التي بدأ ينجذب لها ، كانت تعمل في شركة للتنظيف ، أنها سرقت محتويات شقته ، طلب مني أن أساعده في العثور عليها ، أقنعته أن الأمر انتهى عند هذا الحد ولا أمل في عودة الأشياء التي سرقت منه ، لعله درس يتعلمه أن لا يثق بأحد في هذا المكان ، يعتقد أنه في أوروبا ، صديقتك لديها مفتاح لشقتك والعكس هو الحاصل ، لكننا في بلد الكل يترقب فرصة أن ينقض عليك ، في كثير من الأحيان تعذر أفعالهم تلك ، إنه الموت يحيط بهم من كل مكان ، ويتحين فرصة الانقضاض على كل واحد يسقط .


ليس للفرح مساحات كبيرة في هذه المدينة ، إلا أن الحزن يتمدد حتى أطرافها ، أغلب الأشياء تنتهي بمأساة ، ولا تتوقف المآسي عند حد ، تذهلك أحيانا بكبرها وتصعقك حينما تراها تتراكم على بعض الأسر .


ينقضي الليل ، وتصحو المدينة على عذاباتها ، حتى وإن أخفت الظلمة الكثير من قاذوراتها فالصبح بنوره يكشف ما حاولت أن تخفيه لتزيّن وجه المدينة لزائر ليل ، تبدأ شركات النظافة بتتبع آثار ما خلفته المدينة في المساء ، جهودها المتواضعة ، لا تستطيع أن تواجه شرّ الفقر وطغيانه .


التسكع في المدينة حياة ، هذا ما أفعله أيام الإجازة ، وهي تقريبا ثلاثة أيام في كل أسبوع ، أحب أن أخذها متواصلة ، أجد فيها فرصة للخروج إلى البلدات القريبة من العاصمة ، أعود فيها بعض العرب المستوطنين .


هذه المرة قررت أن أبقى في البناية قد أحصل على فرصة لمرافقة الإيطالية في نزهة ، أو جلسة على رصيف البحر نراقب الغروب ، لكني لم أسمع لهم حس في هذا اليوم ، ربما إثارة جلبة في العمارة قد تجعلهم يخرجون من جحرهم ، قررت عمل مشكلة مع الحارس ، حول سرقة في شقتي حدثت أثناء تنظيفها ، إلا أن تلك المحاولة لم تكن كافية لخروجهم ، لعلهم لا يهتمون بما يحدث في الخارج ، هو أمر لا يعنيهم ، بخلافنا فإن كل ضجيج نبحث عن مصدره .


فشلت وقررت أن أخرج إلي السوق الكبير في وسط العاصمة ، أجلب منه بعض الحاجيات ، وفيه قابلت فتاة عربية اسمها سميّة ، يتأبطها إفريقي شديد السّمرة ، سألتها عن وضعها معه ، تقول إنه وعدها بالزواج ، فهمت أنها منحته براءتها ، لعله دين تسدده سميّة وغيرها من العربيات عنّا ، وأقصد بعنّا أي شباب العرب ، الذي يمارسون نفس الكذب على الإفريقيات لقطف البراءة ، ثم الانتقال نحو زهرة أخرى .


لكن نظرات سميّة تقول الكثير وهي تحدثني ، وكأنها تقول حينما لم نجدكم استسلمنا لمثل هذا الزنجي ، لا أهتم للون بشرته فانا أجد أنه يمنحني ما أفتقده .