أيام مع الأفغان

1

 
زمن من حياتي ..

 
لمصلحة من كان قتالنا ؟


هكذا سالت نفسي مراراً




وهكذا اعتقدت أنها في العقد الثلاثين سمراء البشرة تعامل ركاب الخطوط الكويتية بجلافة وتذمر ، كنت المسافر الوحيد العربي بين مجموعة من العجم على طائرة عربية .


جلست أمامي في المقعد المخصص للمضيفات وقبل أن تسألني ابتسمت


هل أنت عربي ؟


أشرت براسي أن نعم


استطردت بسؤال عن أحوال الطقس في مدينتي ، حاولت قطع ذلك الاستطراد بكلمة رطوبة مزعجة ، بعدها دخلنا في صمت عميق ، نراقب الظلام من خلال نوافذ لا نعلم على ماذا تُطل .


هبطنا في مطارالكويت ، في الكويت العاصمة ، ساعات من الانتظار حتى نواصل رحلتنا نحو كراتشي ، كنت وقتها عازم على دراسة الطيران هناك ، لا أتذكر من نصحني بذلك ، أو لعلي كنت أحسبها مادياً ، فهناك المعيشة أرخص بكثير من مكان آخر .


أول مرة أخرج فيها من جدة ، وقتها كنت في نهايات الـ18 سنة لا أعرف متعة السفر ، حفّظني صديق لي جملة واحدة " كيتنا روبية " ، أسال بها صاحب التاكسي ثم التزم الصمت حتى أوحي له أني أجيد لغتهم ،وكانت تعني كم السعر ، وبلغة الإشارة تفاهمنا على السعر أخبرته عن الحي الذي أريده " كولشن اقبال " منطقة يسكن بها عرب ، يدرسون في جامعة تدرس علوم الدين .


كانت وجهتي هناك ، وبعد بحث ليس بالطويل وصلنا إلى المكان الذي كنت أنشده , فيلا صغيرة متوسطة العمر يسكنها مجموعة من الطلبة العرب من جنسيات مختلفة , حصلت على استقبال جيد ، فيه بعض الشوق لبلاد العرب ورائحة الجزيرة


بدايات الغربة تحيط بي من أول الساعات وأنا مازلت احمل رائحة الوداع على جسدي ، خوف وليس للنوم مسلك نحو جفوني ، نومي سرقته الغربة من عيوني المرهقة ، إثر رحلة غريبة وتجربة جديدة في حياتي، تركت لنفسي حرية البحث عن ما يزيل التعب والإرهاق ، وجمدت عقلي من كل تفكير ، أراقب الأجساد من حولي وهي تتقلب بصمت وتأمل في ذلك المشهد عل نفسي تختار أن تحصل على ذلك، أجساد لا يربطني بها أي شيء سوى أنها تحمل دماء عربية حتى أني أشاهدها أول مرة وهي في موتتها الصغيرة ملامح ليس لها أي تعبيرات


هل ستختلف حينما تتركرُاقدها هذا ؟


2

 
أول مساء أعيشه بعيداً عن الديار ، بين طلبة عرب من جنسيات مختلفة أكثر شخص راق لي مدرس لغة عربية من الصومال ، على قدر كبير من الأخلاق ، درّس فترة في العراق ، يقول أكثر سؤال مرّ عليه هناك أين تقع الصومال ؟ يقول مللت من الجواب الحقيقي فقربت لهم المسافة أنها تقع خلف الكويت ، وهناك سؤال آخر أكثر غربة ، هل في الصومال سيارات كنت أخبرهم فقط سيارة الرئيس الصومالي وسيارة السفير العراقي ، رجل مثله تشتاق لملاقاته ، لا أتذكر اسمه ولا حتى شكله ، سنين طويلة قهرت فيها كل ذاكرة نملكها،


وهناك اثنين من الشباب الأردنيين كان أحدهم المسئول عن المكان ، له ترجع كل الأمور وآخر من سوريا ، تعب علينا ذات مرة وأطلق صيحة أنه لا يستطيع الصبر أكثر ، فقرر بعدها أن يتزوج جنّية ، وسعى في الأمر سألته بعد ذلك ماذا حصل ؟ قال شروطهم صعبة يريدون أن أشترك معهم في حرب ضد قبيلة أخرى من الجن من أجل أن أحصل على جنية منهم .


عشت أيام هناك وكانت أول جمعة تمر علي أخذت المصحف وذهبت لحديقة المنزل ، اقرأ سورة الكهف والشوق يقتلني لأهلي ، شعرت بضعفي وقتها .


مرت الأيام وبدأت أتأقلم على الجو وخرجت من عزلتي ، عشت حياتي التي أنا فيها هناك ، أجمل شيء التجول ومشاهدة المتضادات في نفس المكان والزمان ، فقر وغني وجوع وشبع وخيمة وقصر ومرض وصحة .. كل شيء متجاور هناك .


بعد زيارة الـ p i a أخبروني أن أول دورة سوف تبدأ بعد ثلاثة أشهر مدة طويلة أين وكيف أقضيها تركتها للأيام هي من تقرر .


الشباب في السكن شبه محافظ ، وقتها لم أكن أعرف التصنيفات ، فيما بعد عرفت أنهم مجموعة من الأخوان ، وأيضا فهمت أن من دلني عليهم ، كان يعرف أنني ربما أنحرف لو سكنت بمفردي ، وكأنه عارف بما في داخلي من رغبة في الانحراف ، الفتاة الباكستانية مخيفة بعد الولادة تختفي تقاسيم جسدها بعد أول مولود هكذا شاهدت النساء هناك .


حاصرتنا الانتخابات وقتها ، وحظر التجول كان يقتلنا فقط نخرج لشراء المستلزمات ومن ثم نعود ونمكث في المنزل بملل ، لا نعمل شيء سوى الحديث عن الزواج والرغبة في ذلك ، انتهت الأزمة بفوز بوتو في الانتخابات وعدنا نمارس حياتنا من جديد .


بجوارنا الجامعة وفيها الطلبة من العرب والعجم تعرفت على واحد تبليغي كنت اذهب في المساء أتعشى معه ، تقريبا كل ليلة لم يحدثني عن الخروج بشكل مفصل وحينما بدا يصف لي الخيمة التي تصعد في السماء على اثر ذكرهم ، أخبرته أن عقلي يرفض مثل هذا الشيء فغضب مني ، بعدها لم يجد لذة في صحبتي برغم أني كنت أنا دائماً من يدفع .


في تلك الأيام كان مقر سكننا محطة لمجموعة من الشباب العرب العائدين من جبهات القتال أحدهم ترك لي سديري والكوفية الأفغانية ، بعدها اقترح واحد منهم على أن اذهب هناك فالمدة المتبقية على الدورة طويلة وسوف أمل الجلسة هنا ، فكرت تلك الليلة في كلامه جيداً وفي الصباح وبعد الإفطار وقفت بين الشباب وأخبرتهم بقراري واني راحل إلى الجبهة .


حدث أمر غريب وهو بعد قراري وجدت أن هناك من يدعوني لطعام الغداء في منزله ، كان أحد الأساتذة في الجامعة وهو سوري ، كنت قد التقيت به عدة مرات في صلاة الجمعة وفي جلسات في الجامعة ، أخذني إلي منزلة واحد من الشباب معنا في السكن ، حدثني بحديث مطول عن الجهاد وسد نفسي حينما أخبرني أنه ربما تبتر يدي أو ساقي أو أفقد عيني أو أي جزء من جسدي وأصبح رجل عاجز ، لم أعرف ما هي مقاصده من ذلك في وقتها ولكن بعد مدة زمنية وأنا أستذكر كل الأحداث عرفت الكثير من الأمور ووضعت لها التفسيرات . أكلت طعامه ولم أفهم كثير من وراء كلامه .


وقررت أن اذهب للجبهة




3
دخل المغرب علينا


ونحن خارج المنزل عدت للبيت وجدت اثنين من الضيوف يتحدثون بعنجهية لم أعرفهم فقط كان حديثهم عن ياسر عرفات ( رحمة الله عليه )


قدمت بعض الاحتجاجات ، لم أتوقع ردة فعلهم كانت عنيفة وبدا هيجانه وكأني مسست رمز من رموز الأمة ، أخبرتهم انه زعيمهم ولم أعتبره يوما أنا كذلك ، ستكون له انبطاحات مستقبلية ، تركونا والغضب قد سيطر عليهم


أخذني الشاب الأردني وحدثني على انفراد ، هل تعرف من يكونون ، قلت لا .. قال هولاء من فتح ، ولا اعتقد أن الأمور سوف تسير بشكل جيد معك هنا في كراتشي ، يجب أن ترحل الليلة إلى بيشاور طلب من الشاب السوري صاحب الجنّية أن نخرج باكرا للمطار ونلحق بطائرة الفجر .


ذهبنا وفي الطريق اكتشفت أن هناك رفقة معي ، لم أشاهدها في المنزل كان شاب اسمر ضخم الجثة من مكة ، مررنا عليه واتجهنا نحو المطار أيضا هو متجه إلى بيشاور ، لم اعرفه من قبل ولم أشاهده في البيت .


أثناء الرحلة حدث أمر وهو أن السيدة التي أمامي ، قامت للحمام وهي تحمل خلفها بقعة دم كبيرة ، كنت اسأل نفسي ألا تعلم الأنثى متى تكون دورتها ؟ أم أن السيدة لديها حالة خوف من ركوب الطائرات سبب لها تلك الأزمة .


وصلنا وكان هناك أحدهم في استقبالنا ، وهو شيء لم أتوقعه ، وما زاد من حيرتي أن ذلك المستقبل هو مسئول بيت المجاهدين الخاص بـ جميل الرحمن رحمة الله عليه .


وجميل الرحمن هو أحد القادة الميدانيين في جبهات القتال وهو سلفي المذهب وكان دعمه يأتي من السلفيين في السعودية ، له مواقف ضد الشركيات والبدع فيما كان الطرف الآخر يتساهل معها ، يقولون نحن في حالة حرب ، وإصلاح العقيدة ليس وقته الآن .



أول يوم في بيشاور


4
البرد مختلف في بيشاور


مدينة مليئة بالضجيج فقط تشعر أن كل شيء حولك يتحرك في عجل بصوت مرتفع ومزعج ، لا أتذكر الكثير من ملامح تلك المدينة ، غير الأصوات وبعض الطرق التي توجد بها قنوات تصريف مكشوفة ، هكذا هو تصميمها ، لم اكتشف الفكرة من وراء ذلك إلى الآن .
ركبنا في الركشا وهي عربة بثلاث عجلات من السهل أن تنقلب في أي وقت كما هو الحال في تعديله لوضعه بسرعة ، تشم رائحة الديزل هناك فـ معظم السيارات تستخدمه ، هو أوفر اقتصاديا من حيث الكلفة

بعدما وصلنا إلى المنزل أول عمل قمنا به هو أن توجهنا لغرفة الملابس حيث توجد كميات كبيرة وتشكيلة فريدة من الملابس الصوفية والقطنية الحامية من برودة بيشاور المزعجة ، لم أوفق في الاختيار ، شعرت أن ما اخترته جعلني كسول وثقيل الحركة أكثر مما كنت عليه مع برودة تجعلك ترغب في النوم فقط والأكل


ما إن خلصنا حتى توجهنا لصالة كبيرة مخصصة للطعام الذي تكون من قشطة سائلة تأتيهم كل صباح بتجدد مع مربى وخبز أفغاني على شكل مستطيلات وكوب حليب ساخن ، لذيذة تلك القشطة لم اعرفها منذ تلكالأيام .


اعتقد أن مسئول البيت كان يراقبني بدون ما اشعر بذلك لأنه بعد الإفطار نادني لمكتبه وطلب مني إجراء مكالمة دولية لـ أهلي ربما كان يريد أن يراقب ردة فعلي ، خُيل له أنني سوف أبكي أو ربما اطلب منه العودة إلى أحضان والدتي .


وضعت السماعة بعدها ونظرت له هل هي مجانية أجاب بكل تأكيد ، قلت أتمنى أن احصل على المزيد من الأشياء المجانية ، ثم توجهت نحو الباب ، وقبل أن اخرج ناداني .. أبا يحيى ! التفتت له وقلت إلى المعسكر
( أبو يحيى ) هذه كانت كنيتي هناك .


دخل الليل بعد أن قضينا النهار مع العصر في الحديقة المزروعة بحشائش خضراء رائحتها تملأ المكان نتجاذب أطراف الحديث مع شباب عائدون من الجبهات وهم يخبرونا عن مغامراتهم التي تجعلك تتشوق للذهاب هناك بسرعة ، وننتقل بالحديث عن الانتخابات وعن موقف الشباب من فوز بوتو وكيف حال الوضع بعد تسلمها للسلطة .


الأماكن كلها مليئة لا يوجد مكان لنا نحن الضيوف ننام فيه حتى تدبر أمرنا بغرفة نصفها تحوي أغراضاً خاصة بالمنزل لكنها تحمل كثير من الدفء .


لم استطع النوم مع المكاوي في نفس الغرفة ، كنت خائفاً بشكل مزعج وساوس تأخذني بعيدا وتعود بي ، كلما تذكرتها بعد حين اضحك كثير وأعذر نفسي .. أفكار شاب تربى على قوانين منزلية تحمل الكثير من التشدد في اختيار الرفاق والأصحاب .

سامرت نفسي على أصوات طلقات الرصاص طوال الليل ، عرفت في الصبح أنها مظاهر تعبير عن فرح بفوز بوتو


وظهر الصبح ..
وها نحن نتجهز نحو المعسكر


5
جلسة بعد إفطار ..


حينما نشعر بأن الشمس قد بدأت تنشر حرارتها ، تكون لنا رغبة في التجول في طرقات المدينة ، ممتعة في يوم شتوي بارد مع وجود للشمس .


تركت صالة الطعام وفي الممر الذي يفصلها عن بقية الغرف تصادمت مع صديقي في الثانوية ابودجانة ، هكذا كان اسمه هناك ثلاث سنوات تلازمنا فيها خلال الثانوية وهنا نحن الآن نلتقي في بلد بعيد عن الديار ، لم يتوقع كل منّا أن يكون قدرنا أن نلتقي هنا بدون سابق موعد أوخيار أو حتى مجرد تفكير في ذلك .


الشوق يقتلنا لأيام مضت تحدثنا وتحدثنا وبين الأحاديث نجدد العناق ، سألني ما هي مشاريعك ؟ أخبرته بعد ساعات سوف ننطلق إلى المعسكر .. ضحكة مكر أعرفها من تلك الأيام ترتسم على ملامحه .. سألته ما بك ؟ واني لأعرف أن خلف هذه الضحكات الشيء الكثير .. قال نعم هل تبحث عن مغامرة صغيرة وقصيرة ؟ ، لن نتأخر كلها أيام ونعود ، وصدقني لن يرحل المعسكر والجبهة كلها سوف تنتظرك ، حتى أن الشتاء يقتل الحركة داخل الجبهات ، ولا يوجد بها ما يجعلك تستعجل فالحال فيها هذه الأيام يختلف عن حرارة العمليات في الصيف .


أنا معك ولكن إلى أين ؟؟
لاهور يا عزيزي ، ففيها بنات سلفيات كثير ، نتزوج ونشعر بدفء الثقوب ، كما تعلم قد لا نرجع من الجبهة ونحن لم نتذوق طعم تلك الثقوب في الدنيا حتى نستطيع عمل مقارنة بما في الجنّة ، في هذه اللحظات تمكنت منّي الدنيا ، ورغبت فيها أكثر منأي وقت مضى .


ذهبت لمسئول المنزل وأخبرته أني راحل إلى رولبندي لمقابلة خالي فهناك اجتماع للتبليغيين وودي أشوف خالي الذي لم أراه منذ فترات طويلة وهي فرصة لأنه يعيش في الإمارات غير البلد الذي أنا أسكن فيه ، اخبرني أنني صاحب القرار دائماً .


انطلقنا نحو لاهور وبدينا رحلة البحث عن زوجة أنا وصاحبي ، لا نعرف من الزواج إلا ما يفعله بالليل أغلب الأزواج ، وبحث عن ثقوب تحمل الدفء ، هكذا هي نظرتنا للزواج . وبعد بحث مطول بين الإناث لم يرق لي شيء اعتقدت أني سوف أحصل عليه من فتاة، أخبرت صديقي أن ما نقوم به مشروع فاشل ، والسّمار يحيط بكل الأشياء حتى أجساد الإناث هناك في لاهور .


أشرت عليه أن نقوم بجولة إلى رولبندي نشاهد ما يفعله التبليغيون , قابلت خالي هناك الذي مرت فترة طويلة على آخر لقاء لنا ، طلب منّي أن اخرج معهم وأنها فرصة لتغبير أقدامي في سبيل الله .. أجبته يا خال بينكم وبين ساحات القتال كيلومترات فقط وتغبّرون أقدامكم هنا وتعتقدون أن هذا جهاداً ، جئت فقط أشوفك ولازم امشي الآن ..


تركنا المكان وعدنا إلى بيشاور مرة أخرى بعد أن قضينا تقريبا ثلاثة أيام من البحث عن زوجة ،


على الحال الذي رحلت كان كل شيء على ما هوعليه بسبب الأمطار فقد شلت الحركة في المنطقة التي نريد الذهاب لها وغالبية الطرق مقطوعة بسبب المياه.


6
رحلة نحو المعسكر ..


افترقت أنا وصاحبي في بيت الضيافة الخاص بجميل الرحمن رحمة الله عليه ، وتواعدنا على لقاء بعد جولة في جبال الهند كوش .


سرنا في مجموعة مكونة من خمسة أشخاص أنا ومصري ومساعده أيضا مصري آخر ورفيقي من كراتشي المكاوي وشخص ثالث أتذكر اسمه كان " أيوب " بورمي من مواليد المدينة وعاش فيها ، ولعل السبب في تذكري اسمه اننا حينما تفرقنا في الجبهات وصلتني اخبار ان جزء من رأسه أصابته النار بقوة في احد العمليات للمجاهدين على " البوسطات " الأفغانية


والبوسطات .. هي عبارة عن مواقع يتحصن فيها جنود الحكومة وتتخذ مواقع إستراتيجية تمنع تقدم المجاهدين نحو المدن ، وتنتشر بكثرة حول المدن الكبيرة مثل كابل وجلال آباد


سرنا ونسمات الهواء البارد تداعب الصبح ، طرق خضراء مليئة بالناس ومراكز القبائل تنتشر على طول الطريق ، الكل يأخذ رسوم مرور على المنطقة التي هو فيها وعادة تكون قليلة جدا يتم دفعها برضى ودون أي تذمر لذلك لا توجد مشاكل كبيرة على الطرقات بين القبائل ، البقر والجاموس من الحيوانات التي تكثر مشاهدتها على طول الطريق أيضا ، تشعر بالبساطة في كل شيء وأنت تمشي بين الجبال والأودية ، وفي كل مرة اسأل متى نصل ؟


لم اشعر بخروجنا من الحدود فلا حواجز ولا مناطق للجوازات أو حتى تمايز للقبائل هنا توقفنا في طرف جبل لا يوحي لك من أول مرة انه طويل وشاق طلوعه همة وعزيمة تجتاحني استطيع بها اختراق هذا الجبل ، وما هي إلا أول ساعة وبعدها تنهار كل القوى ونحن في بدايات الجبل ، خدعني منظره لكن الخوض بداخله يجعل الأمر مختلف ، قوة الشباب لا تنفع مع الصعود لابد من تدريب وممارسة لذلك ، وأنا افتقدها في هذه اللحظات


بدأت الملابس الداخلية مع اللبس الباكستاني الواسع تضايقني وتلتف حول رجلي مع الصعود في كل مرة اعدل الوضع إلا أن الحالة تعود في كل مرة اشد من سابقتها مع تعب وإرهاق وتذمر من هذا الصعود تمنيت أني بقيت في بيشاور التسلية هناك متوفرة والرائحة دائمة ، قررت ان اختلي بنفسي خلف صخرة وأتخلص منه ، طبعا السروال الداخلي فقط .

فعلتها بدون تردد برغم وجود نصيحة قد استمعت لها في كراتشي من احد الشباب أن لبس تلك الملابس الخاصة بهم بدون ملابس داخليه يصيب الرجل ترهل في الأعضاء بخاصة " الكعال "

واصلنا السير نحو القمة وفي كل مرة يقول لنا المرشد بقي القليل ربع ساعة أو النصف ، حتى وصلنا مرحلة الإسناد من الخلف بالأيدي او العصي لا فائدة من مواصلة السير بدون أن نصل ولن نصل هذا ما كان يسيطر علينا من شعور


حتى وصلنا ..


لم يكن المكان أكثر من غرفة صغيرة تجاورها اصغر ورجل يحمي المكان وبمسافات قصيرة توجد بعد المنصّات لمضادات الطيران ولا اعتقد أنها تستخدم في نظري وقتها.. أنها لن تسقط أكثر من بعض الطيور المارة في زمن الارتفاعات الشاهقة للطيارات اعتقد أن اسمه " الشلكا " مقذوفاته شوي كبيرة ، استقبلنا " علي باي " وهو الرجل الحارس لذلك المكان والذي يقوم بخدمتنا والترجمة لنا مع بقية الأفغان في تلك المنطقة ، هذا هو المعسكر .


المصري ومساعده وأنا وصاحبي فقط خمسة سوف يتوجه ثلاثة للجبهة ويعود البقية ، هكذا علمت بالأمر بعدها .. فالإمكانيات ضعيفة جدا عند جميل الرحمن ماديا وعسكريا ، وهكذا توضحت لي الأمور فيما بعد وأدركت الخطأ الذي وقعت فيه


استراحة من رحلة طويلة نحو قمة جبل الآن نحن عليها نستمد القوة منه والشعور بالانتصار عليه هو تحت أقدامنا ونحن نعبث فوقه بما نريد
جلسة استراحة فيها نراقب الشمس وهي تختفي خلف الجبال البعيدة ومعها لحظات صمت تصيب الجميع والرياح باردة .. وفي البعيد البياض يكسو جبال الهند كوش وفي الأسفل أشجار تنتظر ذوبان الجليد


غدا يبدأ أول يوم في التدريب


نطق بها المسئول وتركنا الأماكن نحو غرفة نبحث فيها عن الدفء .


7
طرقات "علي باي" وصوته الهادئ أسمعه في حلم ولم يكن كذلك ، بل كان موعد صلاة الفجر ، والنوم في البرد دائماً مختلف ، حينما تجدك بين أحضان الدفء ، ليس هناك رغبات في ترك الفراش ولكن الأمر يحتم عليك فعل ذلك .

ليس بينك وبين السماء ما يحول ، أنت وهي في بقعة من الأرض لا تعرف أين تكون ، سوى أنها في مكان بعيد عن الديار ، النجوم تملأ السماء ، بخلاف ما كنّا نشاهده في المدن الوضع مختلف كلياً ، السكون يفرض عليك الهمس ، لغة الهدوء هي المسيطرة في صباح يوم لا تعلم ما تكون أحداثه .


في ذلك المكان ليس للخصوصية أي مكان ، فقط تأخذ ما تحتاجه من ماء وتنطلق بين الأشجار لتجهّز نفسك لعمل يوم طويل لن يخلو من المغامرة والبحث بين الأشياء للحصول على الجديد ، تمر الأيام ولم تكن بالكثيرة فقط بين الثلاثة والأربعة لتجد نفسك قد حصلت على معرفة تستطيع بها إنقاذ نفسك من معمعة ربما تجد نفسك فيها وحيداً .


لم يكن في تلك الأيام الكثير من الأحداث ، فقط فقدت محفظتي ولم بكن بها كثير من الروبيات بضع ألاف ، تم تعويضي بالنصف منها حينما علم المسئول بذلك ، في أغلب تلك الليالي يمرّ علينا بعض الشباب الخارج من الجبهة ، أجناس مختلفة وألوان متعددة كما هو حال الأفكار التي يحملونها ويحاولون مناقشة الآخرين فيها ، أنا وأيوب الذي يخفف الكثير من أحزاني بحكم تقارب السن بيننا ، كنّا غالبا ما نستمع أو نخرج نشرب الشاي مع الأفغان ، ودائماً ما يكون أخضر مع قطعة سكر قاسية نضعها في الفم ونمرر عليها الرشفات الساخنة


نحاول أن نقلدهم في الطريقة التي يجلسون بها وهي تشبه جلسة الحمّام العربي فترات طويلة في شرب الشاي وهم على تلك الحالة لم نستطع مجاراتهم في تعليق مؤخراتنا في الفضاء بدون أن نجد مكان تسترخي فيه ، لهم طريقتهم تعودوا عليها منذ الصغر ، أجمل أوقات شرب الشاي لحظات ما قبل الغروب وخاصة حينما يسود الصمت المكان بعد ضحكات متبادلة لعدة ساعات ، هي دقائق فقط تشعر بخلوة فيها مع نفسك وبرغم قصرها إلا أنك تحاسب النفس فيها ربما أعوام مضت


آخر أحداث تلك الليالي هو انطلاق ثلاث رصاصات من بندقية كان يتدرب عليها أيوب ونحن مجتمعين في الغرفة نتحدث لكن الله سلّم بفضل جدران الطين التي ابتلعت تلك الطلقات ولم تتح لها فرصة ارتداد ربما قتلت أحدنا أو أصابته بعاهة مستديمة ، تجمع حول غرفتنا الأفغان للاطمئنان على الوضع وكان لهم ذلك .


وفي نفس الليلة تتكرر زيارة أحد الأفغان لنا بخوف عجيب وهو يطرق علينا الباب يطلب منّا إطفاء كل شيء ينير ، هناك طائرة تمرّ في الأجواء وربما يلفت انتباهها أي شيء ينير فوق ذلك الجبل وتعود وتقصفنا ، هكذا هي الأنظمة في الليل حينما تشعر بصوت الطائرات لابد أن تلتزم الصمت والهدوء وتحيط نفسك بالظلام .




أصبحنا على يوم أبيض يكسو مساحات كبيرة من المكان أول مرة أشاهد الثلج بجواري وأنا فيه ، متعة تشعر بها غير طبيعة تمرّ عليها كما هو حال هذه التجربة الجيدة في حياتك لا تعرف كيف تكون ، والنفس تصفو كما هو حال البياض ، خرجنا نتجول في المكان وتحذيرات متكررة يطلقها الأفغان من عدم الابتعاد بشكل كبير .


المصري يجهز لنا ما سوف نأخذه معنا إلى الأسفل وهي جهة تخالف الجهة التي صعدنا منها , الاتجاه سوف يكون نحو الجبهة صوب "جلال آباد" هناك الشباب يحاصرونها لا أعلم من أي جهة ، وفي هذا الأثناء تقدم مجموعة من الأفغان يحملون جريحاً على كرسي من خشب يستخدم للنوم والجلوس يسمّيه هل تهامة " قعادة " أخشابها ارتوت من دماء ذلك الرجل ، أسرعنا أنا وأيوب نحو ذلك المُصاب نتأمل فيه بعيون أطفال خائفة ، لا تعلم ماذا ينتظرها


التفت نحو المصري وقلت .. لن اذهب إلى هناك .


8

وكأن كل شيء تلخبط ، هذا هو الحال بعد ما أخبرت المسئول أني لن أواصل الرحلة نحو الأسفل ، لم اخبره بردة فعلي مما رأيت ولكن اختلقت سببا آخرا وهو أن صديقي أبو دجانة ينتظرني في بيشاور فخطتنا تقضي بان نرحل إلى جبهات الشمال عند " احمد شاه مسعود " .


جلسة انتظار أراقب من بعيد الرفاق أيوب والمكاوي في النتائج التي سوف نخرج بها أنا والمدرب بعد نقاش لم يأخذ فترة طويلة قررت بعدها مواصلة الرحلة نحو الجبهة ، لم يقل الكثير لإقناعي كلمات قصيرة وجملة واحدة " لا تترك الفرصة تفوتك الآن بينك وبين ساحات القتال كيلو مترات ولا تعلم ماذا يحصل إن رجعت " أدركت انه على صواب وانطلقنا الثلاثة ومعنا الدليل وحمار نحمل عليه عفشنا وبنادقنا على ظهورنا بعد تزويدنا ببعض الذخائر لها وليست بالكثيرة .


رحلة الهبوط ليست مزعجة بشكل كبير مثل الصعود بالإضافة إلى اللياقة البسيطة التي حصلنا عليها خلال الأيام التي مضت ، الوضع تغير معي ، وأنا في سيري ارغب بالوصول بشكل سريع ليت الساعات تنقضي وتختصر المسافات ، نمشي في صمت بين المنحدرات والتي لم تكن خطيرة بشكل كبير ، قليل من الانتباه يكفي للسير بشكل آمن ، لم يمرّ في ذاكرتي الكثير من ما تركته خلفي غير بعض الأصدقاء في جدة وكانت ثقتي كبيرة أني لن أقابل احد فيهم في هذا الزمن وفي نفس المكان الذي أنا فيه .


بعد هبوط لأكثر من ثلاث ساعات توقفنا في نهايات الجبل حيث توجد بعض البيوت لرعاة أفغان ومزارعين تناولنا طعام الإفطار عندهم خبز وشاي وجلسة تحت ظل كانت أكثر من رائعة مع نسمات باردة تغريك بقيلولة قصيرة لكن الأمر ليس بيدك هاهم يتجهزون لمواصلة السير ، المسافة أمامنا منبسطة نحو المكان الذي سوف نقصده ، ولم يكن الجبهة عرفت فيما نحن نواصل سيرنا لقد كانت نقطة تجميع للشباب من أماكن مختلفة ، منها يتم الدخول للجبهات ومنها يتم الخروج

وصلنا بعد أن تجاوزنا الظهر ومررنا بقرية كانت شبه مدمرة يبدو أن قتالا قد دار فيها بقايا عربات مدمرة ودبابة معطلة بسطحها من المقدمة قذيفة هاون مازالت ملتصقة فيه ولم تنفجر ، يزداد صمتنا وعيون ترقب المكان بتأمل الحائر أين سيجد بقايا دماء ؟ تركناها خلفنا و واصلنا المسير بخطوات تشبه خطوات الدليل خوفا من الألغام برغم انه يتحرك بحرية تامة لكن الخوف والتحذيرات من الشباب بقيت عالقة في ذاكرتنا أن كل الأرض الأفغانية تحمل في بطنها كم هائل بـ أشكال مختلفة


كل شيء من حولك يشعرك بغربتك في هذا المكان حتى الأطفال هناك حينما نمر بجوارهم يتركون لعبهم لخطف نظرت سريعة لا نملك لها تفسيرات كتلك التي نشاهدها في عيون الكبار منهم ودائما ما توحي بخجل والقليل متذمر من وجودنا على أرضهم ، ونادر ما نشاهد نساء


توقفنا عند دار كبيرة بها مجموعة من الغرف وساحة تابعة لها , بها مجموعة من صناديق للذخائر وبعض العتاد المعطل ، كان خاليا إلا منّا ، أخبرونا أن ننتظر هناك سيارة واحدة تأتي كل مغرب تأخذ الجميع للجبهة .. وكان الانتظار


وصلت مجموعة بعدنا بساعات قليلة ولحقت بها أخرى ولم تكن كبيرة كان مجموعنا ما يقارب التسعة أو يزيد لا تذكر تماما ، ما اذكره أن هناك اثنين من السودان ، وما جعلني أتذكر السودانيين هو انه بعد طعام الغداء قريب العصر خرجنا لمزارع القصب وافترشنا الأرض وبدأنا نجترّ قصب السكر .. كان متعة ، وكنت استعين بخبرة أخ سوداني في تقطيع القصب إلى أوصال صغيرة ، حلاوة ليس بعدها ما يشغل بالك في ذلك الوقت أو تبحث عنه ، حتى الغروب ونحن بين عيدان القصب إلى أن أقبلت السيارة التي كنّا ننتظرها


كانت ناقلة للمياه " وايت " في أعلاها شبك لتحميل العفش الركاب ولا شيء غيرها ، انطلقنا على ظهرها بسرعة عجيبة حتى أن سائقها لا ينتظرك ان تخفض راسك حينما نمر أسفل كبري لا يسمح لك بالمرور من تحته وأنت في حالة جلوس على ظهر العربة سوف تخطف راسك الحواجز الإسمنتية


وصلنا مع أذان العشاء إلى المعسكر ، وكان عبارة عن طريق بعرض يزيد عن عشرة أمتار في ظهر سلسلة جبال تشرف على وادي لا تستطيع أن تشاهد أرضيته من كثرة الحشائش الجافة التي تنتظر ذوبان الجليد من قمم الجبال .


ومع بدايات الصلاة ها هي الدبابة تمشط الوادي بعرضه ، قذاف متواصلة تحمل صوت مرعب ومفزع يصاحبه شظايا تمر فوق رؤوسنا ترتطم بالجبل ينتج عنها قبس ، ومع تزايد الشرر يزداد الخوف حتى أني بدأت الملم نفسي حول نفسي والتصق بالواقف بجواري في صف الصلاة ، وما أجمل السجود كان أفضل اللحظات التي تشعر فيها بالأمان فأنت قريب من الأرض وتستطيع أن تحتضنها عندما تتطاير الشظايا بشكل جنوني من فوقنا ، نسمع صفيرها ونشاهد شررها على صخور الجبل الذي يحمينا من القصف المباشر نحونا ولكنه هنا يعجز عن توفير تلك الحماية حتى لنفسه


لا اعلم كم ركعة صلينا ، كنت أوسوس بشظية تلطشني أو صرخة شاب فقد جزء من جسده وليس له معين في ذلك المكان غير الله


أرهقني الصداع بشكل جنوني وكنت اعلم أن لا علاج له غير حبات من البندول ولم أجدها ، ارتميت بين الحقائب في احد الخيام وسمعت أصواتاً تهمس لبعضها .. " غدا عملية على البوسطا "


9
" حينما تحصل على دفء بمقدار ما يمنحك إياه جسد أنثى لابد أن تتحلّم "

هذا ما خرجت به من أيام قضيتها مع ليالي شتاء قاس يصل إلى حد الصقيع تتجمد فيه الأطراف حتى أنك لا تشعر بها فتحاول أن تضربها بشيء كي تحصل على مزيد من الحرارة حتى وإن كان عن طريق الألم ، بين الحقائب مازلت أعيش في عالم بعيد عن الذي أنا فيه ، ملذات الدنيا تحيط بي أحاول أن أحصل على مقدار كبير منها خوفا من يكون كل ذلك حلم وهو في الحقيقة حلم جميل منه لم أخرج بشيء سوى أني تمتعت في حلم .


صلاة العشاء كنّا قد جمعنها مع المغرب ، فأخذت حريتي في نوم أخرجني منه أصوات الشباب المرتفعة والمتحمسة للقاء العدو ، الكثير منّا هذه أول تجربة حقيقية له مع الرصاص الحقيقي والموت المتوقع في أي لحظة ولم يكن مُرعب مثل ما هو الحال مع شظية تتركك معاقا بقية حياتك .


ثلاث نقاط هي مناطق التمركز

أقربها هي للأسلحة الخفيفة ولا يفصلك عن العدو سوى أمتار معدودة الكثير من الشباب يحرص أن يكون في المقدمة وهي لم تكن إلا لـ أصحاب الخبرة من قبل ، أسلحتهم مقصورة على الكلاشنات وال أر بي جي والغرينوف الخفيف والثقيل


النقطة الثانية وهي لحملة مدافع الـ 75 و الـ 82 وتكون في منطقة بعيدة عن الموقع الذي سوف تتم مهاجمته ، هي منطقة خطرة جدا لأنها تكون مكشوفة للعدو

النقطة الثالثة وهي ابعد نقطة من البوسطا واقرب نقطة للمخيم وقد كانت منطقة إطلاق قذائف الهاون ، الجميل فيها أنها خلف ساتر جبلي عادة تكون بحيث لا يشاهدك العدو


ولقلة الإمكانيات عند الشيخ جميل الرحمن رحمة الله عليه مقارنة ببقية الأحزاب فقد كانت فترة القتال محددة لنا حيث أن كمية الأسلحة التي سوف يتم استخدامها كانت كافية فقط لمدة ساعتين , لم كن اعلم ما هو الهدف منها إذ لا يوجد ضمن الخطة عملية اقتحام للبوسطا وهو ما يرغب به كثير من الشباب


خرجت من الخيمة أبحث عن اسمي في أي نقطة سوف يكون ، وجدته مع مجموعة المدفعية ، النقطة التي في المنتصف ، رجعت مرة أخرى أبحث عن الدفء بين حقائب أتت من أماكن بعيدة ومتفرقة اجتمعت في مكان وربما تغادره في أي لحظة وقد يحصل أن أصحاب بعضها لن يرافقوها في رحلة العودة إلى الديار ستتركه هنا وتعود من حيث أتت وربما تجد آخر يحملها ، احتضنت حقيبتي بشدة وكنت أهمس لها أتمنى أن لا تتركيني هنا , ارغب في مرافقتك في كل الأماكن ونعود سوية من حيث أتينا .

ما كنت أخشاه قد حصل ، حصلت على الدفء وهذه مأساة حقيقية في مكان كهذا ، لن تنجو من رياح جلال أباد الباردة سوف تنقض عليك وعلى جسدك ولا معين لك منها ، طردت كل خوف من عمل شاق ينتظرني في وقت تتزاحم فيه الأعمال وواصلت نومي وأنا اشعر بالرطوبة في جزء من جسدي حاولت عدم التفكير فيه .


أشرقت شمس يوم جديد على أفغانستان ولم أكن في تلك الليلة انتظر الصبح تمنيت أن يطول حتى لا ينتهي الظلام ، جميل هو ، وصوت الهدوء يحيط بك فقط تشعر أن النجوم تتحدث في سماء بعيده وصافية ورغم بعد المسافات إلا انك تسمع همسها وتشعر بحركتها .


كانت الساعة التاسعة صباحا في يوم مشرق نسائم هواء باردة تمر بنا قدرتها على تحريك الحشائش بانسياب تجعلك تراقب المنظر وتسرح معه وتلغي كل شيء حولك قد يكسر هذا السرحان ، لم يمر الكثير من الوقت حتى أدركت أن هناك اغتسال ينتظرني .


وجدت صديقي " أيوب " والمكان شبه خالي تماما إلا من نفر قليل من الشباب ، سألته أين هم ؟ اخبرني أنهم انطلقوا ومازال الظلام هو المسيطر على المكان للوصول إلى اقرب نقطة من العدو , به يتخفون من رصد أي تحرك لهم ، نحن هنا في مجموعة الهاون ننتظر إشارتهم التي سوف تكون متأخرة نوعا ما لان النهاية لابد أن تكون في ظلام أيضا حتى يستعينوا به على العودة للمعسكر ، وأين أغتسل ؟ أخبرني أن ليس لك مكان غير أسفل الوادي هناك عين تخرج من الجبال وهي دافئة تقريبا وليس هناك حل آخر .. انه الجهاد يا صديقي .


تركت " أيوب " وتوجهت أسفل الوادي أبحث عن شيء يطهّرني ويخرجني من نجاستي

10



يدي .. يدي تنزف .. تنزف


.. والليل آآهات والمدافع تقصف


كنت قد نويت بيع الماضي والذكريات أو لعلها حجة للهرب من سرد ذكريات لا نستطيع معها الصمود ضد موجات نزيف الجرح في دواخلي أخشى من بكاء ووقعت فيه ، سألتها ذات يوم أيبكي الرجال .. قالت أبك يعرب وطرد جميع أحزانك .


ما أشد قسوة الليل حينما يحاصرك بأفكار لا تحاول سردها فيه لأنها سوف تغلب نومك وتسرح بك في عالم الظلمات ، وبكيت كـ طفل على شرفة منزل في الساحة يقتل أباه


ليلي البارحة كان مختلفا عن ليال بعيده ، هناك على مشارف " وادي بنشير " ذلك الوادي الذي تُقهر أمامه أقوى الجيوش ويعجز أفضل القادة تحريك قواتهم فيه أمتار قليلة ويزيده تكبد خسائر تجعله يقرر أن حان وقت الانسحاب


اقترب الفجر وأنا مازلت أجوب ولايات الأفغان خوست وقندهار وحصار جلال أباد ، ميرام شاه وطرخم وبيشاور .. والحلم بدخول كابل العاصمة ، تذكرت الأودية والهضاب وقمم جبل عليها ثلة من شباب يقهرون صموده بصمودهم عليه ويرددون " جهاداً في سبيل الله فوق التل والودي " هناك حيث تشعر أن الكون يقف عند قمة جبل تضربه موجات صقيع يتجمد فيها كل شيء حولك


لم أقاوم دموع في ظلام ، ربما هو مكان مناسب تخرج فيه حتى لا يشاهدها أحد ، تقهرني الذكريات لأنها عبرت وليتني بقيت فيها عالق ، جداول عذبة وأنهار باردة وخنادق وكهوف وجبال تحترق ، أصوات قنابل وأزيز طائرات ورائحة بارود تداعب الأنوف .


توقفت عند كل الأحداث وسرت أركض مع شريط الذكريات مع شباب ذللوا سبل المعالي .. وما عرفوا سوى الإسلام دينا .. شباب لم تحطمه الليالي .. ولم يسلم إلى الخصم العرينا .. وما عرفوا الخلاعة في بنات .. وما عرفوا التخنث في بنينا ، سرت معهم من المحيط إلى الخليج نجتمع على القرآن وإن كنا نختلف في اللهجات ..

مسحت دمعاتي أكثر من مرة حتى أدركني الفجر




وقت المعركة ..


دقائق بالعشرات فقط على الغروب ، هذا ما نملكه من وقت يتساوى مع ما معنا من ذخيرة ، في المؤخرة نراقب المنطقة التي سوف تنطلق منها أول شرارة تعلن أنه وقت المعركة ، عندها سوف نصب حمم عشرات قذائف الهاون على البوسطة


ومع اقتراب وقت البدء يزداد الخوف " وإذ بلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا " كانت دعواتي " اللهم ثبتني " فقد سمعت من الحكايات الكثير أن هناك من إنهار حينما تدخل المعركة وقت الحسم وأن هناك موت حقيقي وأسر وأشلاء متناثر .. الكثير صاح " أخرجوني من هنا أنا ...... "


لحظات انتظار وترقب للجبال البعيدة هناك ، لم نكن نعرف من أي جبل سيهجم الشاب .. وما أنا متأكد منه أنهم سـ يغيرون على العدو .. أول قذيفة شاهدتها كانت لـ ار بي جي ورب الكعبة اكتب هذه الكلمات وأنا أتذكرها تنفجر في الفضاء دخانها الأسود ينشر سحابة في السماء ، يزداد صوت الأسلحة التي تشتغل في المعركة .. لم يكن هناك اقتحام لذلك كانت كل الأسلحة تشتغل في وقت واحد بعكس عمليات الاقتحام حيث يبدأ التمشيط بالأسلحة الثقيلة تغطي الزحف نحو البوسطة ،

بدأنا نرميهم بقذائف الهاون وهناك راصد يحدد لنا أين سقطت قذائفنا فنحاول أن نعدل في المسافات بقياسات البعد وإضافة البارود للقذائف ، لم نكن نخاف من الرد من العدو برغم أنها من مجموعة قذائف قليلة رميناها إلا وقد حدد منطقتنا فبدأت الدبابة تدك الجبل الذي خلفنا تضرب قمته بعنف متواصل كانت قمته خلفنا تهتز وترمينا بالصخور ونحن أسفلها يحمينا جبل أصغر منه ، يزداد خوفنا مع كل قذيفة هاون نرميها من أن تكون مُشَرّكة " تنفجر داخل الهاون " هذا ما يقوم به الجيش الأمريكي يشرك القذائف كي تنفجر في الشباب ، الكثير من الحوادث حصلت وقتل الكثير من الشباب بسببها


بدأت أدخل في جو المعركة وتزول الكثير من المخاوف ، ترتفع النشوة وأنت تشاهد مجموعة مجنونة من الشباب تقف بمدفعها في مكان منبسط ليس بينها وبين البوسطة ساتر غير خندق يختفون بداخله بعد كل رمية نحو العدو ،


ها هي الشمس تتركنا مع خيوط الظلام التي تخيط السماء لتحجبها عنّا وتحول بيننا وبينها وكلما زادت الظلمة كان الوقت مناسبا لانسحاب خفيف لجميع المجموعات مع بقاء المجموعات المتأخرة لتغطية الانسحاب للمجموعات المتقدمة وحينما تأكدنا من عبور آخر شاب للمناطق الآمنة تم الانسحاب الشامل لبقية المجموعات ، تفقدنا الشباب هل هناك قتلى أو جرحي ، لم نفقد احد في هذا الهجوم ولله الحمد


أجمل المناظر تشاهدها يعجز رسام بارع أن يعطيك تصورا لها و يفشل أكبر عازف محترف من وضع نوته لنغمات تطربك بوقع أصوات الرصاص المتدرج والقنابل حينما تنفجر وأصوات الصواريخ ..


معزوفة أكثر من رائعة يقودها شباب صغار لم يبلغوا العشرينات من العمر كنّا صغار لم نهتم لما يحدث في بيشاور من خلافات بين الجماعات ولم نبحث عن الكتب المنتشرة بشكل رهيب ولم نراقب الوجوه العربية التي أرسلتها حكومات عربية وهي تملأ المكان وفي كل مكان ، كنّا نترقب قطرة دم من أجسادنا تخرج لله ..


ونحن نردد " اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى "


11

صباح يوم جديد ، لا يحمل الكثير ، فقط حكايات عن يوم أمس ، ليس هناك أي حصر لخسائر العدو ، ولا تستطيع أن تصل إلى أي معلومة ترشدك عن عدد القتلى إن كان هناك قتلى، فقط تشعر أنك خضت معركة وأيضا تجد بداخلك شعورا أنك انتصرت ما لم يكن هناك خسائر في الأرواح .


ثلاثة أيام من الروتين ، في الجبهة بدون أي تفكير لخوض معركة جديدة لأننا لا نملك السلاح الكافي لذلك ، نحاول أن نمرر الوقت ببعض اللهو أو بالتجول في القرى القريبة من الجبهة ، أو نجلس على قمة آمنة في طرف الوادي نعد القذائف التي ترميها الدبابة علينا ونخمن أماكن سقوطها .


الهمس بدا حول ترك المكان والذهاب إلي قندهار ، هناك الجو مناسب لخوض معارك حقيقية ، كل شاب يحلم بان يفوز بعمل يشترك فيه لاقتحام بوسطة وهي نادراً ما تحدث ، العجيب أن في ذلك الاقتحام قد تجد نفس في الأسر ، عجيبة هي تصرفات الأفغان ، لا تعلم متى يكون الهجوم ولا تعرف متى ينسحبون ، فجأة تجد نفسك وحيدا داخل البوسطة تبحث عن رفاقك فلا تجدهم ، لذلك كنّا حذرين في أن نكون في مجموعات عربية ، نفهم متى ننطلق ونعرف متى وقت الخروج .


عقدنا العزم على ترك جبهة جميل الرحمن رحمة الله عليه ، والذهاب إلي قندهار ، ما نسمعه عن شجاعة القندهاري شيء بعيد عن أن يكون ذلك حقيقة ، أغلب القصص تدور عنهم حينما تقع المجموعة في حقل ألغام ولا تعرف أين هو الطريق الصحيح ، تجد بينهم من يتبرع ليكون تلك المجنزرة التي تقتحم الحقل وتشق الطريق ، أشد المناظر بشاعة وفي نفس الوقت تحمل الكثير من التضحية ، هي تلك التي تشاهد فيها ثلاثة يتقدمون بسرعة لشق طريقا آمنا لبقية المجموعة ، أشلاء تتطاير ذات اليمين وذات الشمال ، منهم من يصل وهو فاقد أطرافه وآخر لا تعرف أين ذهب بكامله ، نعم فقدوا ثلاثة ولكن هناك البقية تواصل المسير لخوض معركة ، يرون أنها مصيرية من أجل تحقيق النصر ، ودائما الرجال هم من يسقطون في أرض المعركة ، أما الجبناء تجدهم حتى وإن سقطوا إلا أنك تجد بنادقهم مليئة بالذخيرة " الرصاص "


من جديد لابد أن نعيد نفس رحلة الصعود والهبوط خلف الجبال حيث هناك السيارات تنتظرنا ، لكن هذه المرة الوضع مختلف لقد اكتسبنا لياقة لا بأس بها ، تساعدنا على الصعود بدون مساعدة .

في طرف الجبل وقبل الصعود استضافتنا أسرة أفغانية لتناول طعام الفطور عندهم ، مميز بالنسبة للجبهة ، الخبز مع الزيت وكأس شاي يحمل الدفء بين أعمدة الدخان المتصاعد منه ، بعدها نسير رحلتنا نحو الأعلى ، أكثر ما يزعجك فيها حينما يرفض الحمار أو البغل أن يتحرك ، مهما ضربت ومهما عملت فإنه لن يتحرك إلا بمزاجه وأكثر ما يقلنا أيضا أن يثور ويحاول الهرب فيتدحرج إلي أسفل الوادي فلا يصل منه إلا بقايا حمار .


لذة عجيبة حينما تتوقف عند جدول يخترق الصخور الجبلية ويسكب ماءه نحو الأسفل ، تجثو على ركبتيك لتشرب من مكان يتجمع فيه الماء ، بدون أن تضع يدك فيه حتى لا تعكر صفوه .


في القمة مرة أخرى " علي باي " في استقبالنا ، لم ننتظر طويلا هناك فقط سلمنا أسلحتنا بشكل رسمي ، بعدها انطلقنا نحو الأسفل ، بيني وبين نفسي كنت أضحك ، هل سأجد ما تركت بين الصخور أثناء رحلة الصعود ؟ إن وقعت على المكان لن أتردد في أخذه ، هنا كل شيء له قيمة حقيقية حتى وإن كان ذلك مجرد سروال داخلي ضربه صقيع جبال الهند كوش .

12

وصلنا إلي السيارات التي كانت تنتظرنا أنا وسبعة من الشباب من بينهم أبو الذهب المكاوي ، متجهين نحو بيشاور نقطع السهول والأودية والقرى الصغيرة والكبيرة ، رائحة الديزل تفوح في كل مكان طوال الطريق ، احتراقه وانتشاره في الجو البارد يعطيك رغبة في استنشاقه ، مازالت رائحته تداعب انفي برغم بعد المسافة بيننا .


سائقون متهورون في أعلى المترفعات والمنحدرات وكأن كل شيء حولك يشعرك أننا في عصر السرعة ، لا اعلم ما لذي يدعوهم لكل ذلك ، الأغرب أن حوادث الطريقة قليلة جدا مقارنة بذلك التهور .


في منتصف الطريق وقبل أن ندخل الحدود الباكستانية أوقفتنا سيارة ، وهذا هو الحال طوال الطريق لابد أن تقف في كل قرية لدفع بعض الرسوم من أجل أن تحصل على الأمان إلي القرية الأخرى .


في كثير من المناطق هذا هو العرف السائد ، حواجز على الطرقات في مناطق كل قبيلة ، لأنهم يعتقدون أن ذلك حق مشروع لهم لما يوفرونه لك من حماية طوال الطريق ، اقترب من السيارة رجل نحو خلفيتها التي نجلس فيها ، كان أبو احمد المدني ، هو ذلك الشخص الذي أرسلني أنا والمكاوي من كراتشي ، طلب من أبي الذهب الخروج معه ، لم يستمر الحديث بينهم طويلا ، بعدها تحركنا نحو هدفنا ، لكن هذه المرة بدون المكاوي .

 
بيشاور ..
لم تكن هناك أي أحداث مهمة خلال طريقنا لها ، غير ذلك الحدث الذي أخرج منّا رفيقي طول فترة الرحلة ، كنت أتمنى أن يأخذني معه برغم أني لا اعرف أين هم ذاهبون ، فقط كل ما يهمني هو الحركة ، إذ أن أي شي فيه مغامرة كنت أحب أن أخوضه ، وأيضا أحب أن أخوض في شيء لا اعرف ما يكون أو السير في طريق لا اعرف ما هي نهايته .


أن ترحل بدون أن تعلم أين سوف تتوقف أمر جميل ، خاصة في بلد غريب عنك ، كل شيء من حولك في تلك الأيام يسحبك نحوه ، حتى الجمادات تشعرك أنها ترغب في تواجدك ، بلاد لا تجد فيها ما يشعرك أنك غريب ، تمشي على أرضها و تتنفس هواءها ، وفي لحظات أخرى تجد العكس تماما ، تصيبك الخيبات حينما ترى في عيون كل شيء حولك ، أنك شخص غير مرحب فيه .


المتناقضات تقتلني وأنا اكتب في هذه اللحظات ، لا أتذكر الكثير مما كنت أفكر فيه ، أسير تفكيري وأسير طوال الطريق ، أشاهد البيئات المختلفة من منطقة إلى أخرى ، الفقر والغني الحياة والموت ، أتعجب من ذلك الحيوان الكبير الذي يشبه البقر ، سالت عنه اخبروني أن تلك الجاموسة .


أحاول الآن أن أكون هناك بين الجبال والأودية والسهول والهضاب ، حياة في أمكان بعيدة ندخل وسطها بدون أن نأخذ الإذن منها ، فقط وجدنا أنفسنا على موعد مع القدر ، نعم كان هناك قدرنا ، وهناك أيام قضيناها من حياتنا ربما كان قدر البعض أن يرحل ويتركنا في حيرة ، على من سيكون الدور في القصف القادم .


تبقى في ذهول من الصدمة وأنت تتحدث بصوت مسموع لا توجهه لأحد ، فقط تهذي بكلمات ينظر لها البعض أنها حالة حزن على رفيق ، وأنت تكرر قبل قليل تناول معي طعام الإفطار أخبرني عن طفلته ذات الخمس سنوات ولم يشاهدها منذ سنوات ، أخرج صورتها وقبلها ، يقدمها لي كي أنظر أخبره أن عيونها جميلة ربما تشبه عيون والدتها ، أمازحه يا أبا فلان لو مت أكتب في وصيتك أن تتزوجني ، يتوعدني بطلقة في رأسي ويموت فوق الجبل .


إني ذكرت أبا الزبير وصحبه ،،،، فبكيت حتى كاد يدركني العمى


حياة الرفاق تنتهي وأنت تخط عددهم على صخرة بجوار مرقدك ، وتسأل نفسك أين سوف يكون اسمي ؟ ربما على صخرة أبي دجانة أو صخرة رفيق آخر .


الحياة وحب الحياة يجعلنا نفكر في حال من كنّا معهم في الوطن ، أين هم الآن وكيف يعيشون ، ونحن بين الجبال نتنقل لا نعلم ما مصير كل رحلة نبدأ معها ، نستريح قليلا وفيها نجهز أنفسنا لرحلة جديدة ، ها نحن نغادر من رحلة إلي أخرى ، كل ما نعلمه أن لدينا تفاصيل رحلة قد سبقت ، لكن مخطط الرحلة القادمة هو في علم الله .






14
لحظات تأتيك ، تشاهد فيها جمال الكون حينما تغمض عينك وتتذكر معالم ذلك الطريق ، رحلة صباحية من بيشاور إلى إسلام آباد ، تسير داخل الطبيعة وكأن الحياة موجودة هنا فقط ، تستغل كل الفرص للحصول على المشاهدة ، هي لا تختلف كثير عن سابقاتها ، إلا أن بعض المناظر تختلف حينما تدخل بعض المدن الكبيرة .



- هل هنا تقف حركة العالم بالنسبة لك ؟
أنت فقط الكائن الوحيد الذي يتحرك ، كل شيء من حوله صامت ، فكر بعيد ، من خلف الجبال يأتيك الإلهام ، تتلبسك نبوءة ، منها تريد أن تخبر العالم أنكم هنا ، على هذه الأرض تتحركون ، تصنعون الحدث ، ينتظركم الكثير خلف الشاشات ، يريدون معرفة ما تصنعون ، كيف تعيشون ، كل تفاصيل حياتكم ، بعده يدهشك أحدهم بسؤال


- لماذا أنتم هناك .

 
" إسلام آباد "
مدينة وكأنها زرعت في غابة ، مخططة بطريقة راقية ، لن تعجز في الوصول لأي مكان لو كنت تحمل رقم الشارع ورقم المنزل ، بكل سهولة سوف يصلك صاحب الأجرة " التاكسي " إلي المكان الذي تريد بدون عناء وجهد البحث . تنظر للفلل المبنية بطريقة حديثة وفي نفسك تقول هي بأموال عربية ، ذلك يخلق لديك نظرة أخرى عما كنت تعتقد في الشعب الباكستاني ، الأمر العجيب أنك لا ترى أهل هذه المدينة بكثرة ، هذا ما شعرت به ، وكأنها مدينة خالية إلا من قلة ، أو أن سكانها يعيشون في المنازل ، وتصلهم معيشتهم وأجورهم إلى المكان الذي يقبعون فيه ، فلا حاجة لخروجهم .


قضيت يوماً واحداً في بيت الضيافة للشيخ جميل الرحمن رحمة الله عليه ، تقريبا بعد عدة ساعات ظهر " أبو دجانة " يحمل ملابسي في كيس وهي مازالت مبللة واخبرني بقصته مع الشخص الذي أخذ ملابسه بالخطأ ، قضينا تلك الليلة مع بعض ، وافترقنا في الصباح ذهب إلي المدينة التي فيها " أبو محمد المصري " وبقيت أنا انتظر من يقلني للمطار ، بعد أن أكدت رحلتي إلى كراتشي عصر ذلك اليوم ، وجدت أحد الشباب يعمل محامي ، اعتقد انه من الجنسية السورية ، عرض أن يقلّني إلى المطار قبل ذهابه إلى المحكمة ، عبّرت له عن امتناني وشكري .


في الطائرة ، لفت انتباهي ذلك الذي بجواري وهو يمارس نوع من الاضطهاد على إحدى المضيفات بعد أن وجد في طعامه " شعرة " ، ربما سقطت من رأسه وهو لا يعلم ، لكنه استغل تلك الفرصة للنيل من الموظفين ، لعله يعتقد أنه لن تأتيه فرصة أخرى للنيل من شخص يضع الكثير من الروائح الطيّبة ، إذا سنحت لك فرصة بهذا الشكل لا تدعي إنسانيتك أو لا تنظر أن من سوف تعاتب أنثى ، احزم واعزم للنيل منهم ، لكني كنت عكس ذلك مع موظفة " الخطوط الكويتية " التي كنت أحد ركّابها إلي كراتشي ، إذ أني تمسكنت كثيرا لها كي تبدل وجبتي التي وجدت فيها أيضا شعرة غير أن الأخيرة قالت لي " يبه كُل " .